الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)
فالساحل والقليب يستخرج منهما تأويلان مجازيان: أحدهما أنه أراد بهما الكثير والقليل بالنسبة إلى الساحل والقليب، والآخر أنه أراد بهما السبب وغير السبب، فإن الساحل لا يحتاج في ورده إلى سبب، والقليب يحتاج في ورده إلى سبب، وكلا هذين المعنيين مجاز، فإن حقيقة الساحل والقليب غيرهما، والوجه هو الثاني، لأنه أدل على بلاغة القائل ومدح المقول فيه، أما بلاغة القائل فالسلامة من هجنة التكرير بالمخالفة بين صدر البيت وعجزه، فإن عجزه يدل على القليل والكثير، لأن البارض هو أول النبت حين يبدو، فإذا كثر وتكاثف سمي جميما، فكأنه قال: أخذنا منه تبرعاً ومسألة، وقليلاً وكثيراً، وأما المدح المقول فيه فلتعداد حالاته الأربع في تبرعه وسؤاله وإكثاره وإقلاله، وما في معاناة هذه الأحوال من المشاق.فهذا ما يتعلق بالترجيح البلاغي بين الحقيقة والحقيقة وبين المجاز والمجاز، وبين الحقيقة والمجاز.وهاهنا ترجيح آخر لا يتعلق بما أشرنا إليه إذ هو خارج عما تقتضيه المعاني الخطابية من جهة الفصاحة أو البلاغة، وذلك أن يرجح بين معنيين: أحدهما تام، والآخر مقدر، أو يكون أحدهما: مناسباً لمعنى تقدمه أو تأخر عنه، والآخر غير مناسب، أو بأن ينظر في الترجيح بينهما إلى شيء خارج عن اللفظ، فمثال المعنيين المشار إليهما أن المعنى التام هو الذي يدل عليه لفظه ولا يتعداه، وأما المقدر فهو الذي لا يدل عليه لفظه بل يستدل عليه بقرينة أخرى، وتلك القرينة قد تكون من توابعه وقد لا تكون.فمما جاء من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «في سائمة الغنم زكاة» فهذا اللفظ يستخرج منه معنيان: أحدهما: تام، والآخر: مقدر، فالتام دلالته على وجوب الزكاة في السائمة لا غير، والمقدر دلالته على سقوط الزكاة عن المعلوفة، إلا أنه ليس مفهوماً من نفس اللفظ، بل من قرينة أخرى هي كالتابعة له، وهي أنه لما خصت السائمة بالذكر دون المعلوفة علم من مفهوم ذلك أن المعلوفة لا زكاة فيها، وللفقهاء في ذلك مجاذبات جدلية يطول الكلام فيها، وليس هذا موضعها، والذي يترجح عندي هو القول بفحوى المعنى المقدر، وهو الذي يسميه الفقهاء مفهوم الخطاب.وله في الشعر أشباه ونظائر: فمما ورد من ذلك شعراً قول جزء بن كليب الفقعسي من شعراء الحماسة، وقد خطب إليه ابن كوز ابنته فرده: وهذا البيت الثاني يشتمل على المعنيين التام والمقدر، أما التام فإن ابن كوز سأل أبا هذه الجارية أن يزوجه إياها في سنة، والسنة: الجدب، فرده وقال: قد غذاْ الناس البنات مذ قام النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أيضاً أغذو هذه، ولولا ذلك لوأدتها كما كانت الجاهلية تفعل، وفيه وجه آخر، وهو أنهم كانوا يئدون البنات قبل الإسلام فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقوله غذاْ الناس مذ قام النبي الجواريا أي في النساء كثرة، فتزوج بعضهن وخل ابنتي، وهذان المعنيان هما اللذان دل عليهما ظاهر اللفظ، وأما المعنى المقدر الذي يعلم من مفهوم الكلام، فإنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحياء البنات، ونهى عن الوأد، ولو أنكحتكها لكنت قد وأدتها، إذ لا فرق بين إنكاحك إياها وبين وأدها، وهذا ذم للمخاطب، وهو معنى دقيق، ومجيء المعاني المستخرجة من المفهومة قليل من الشعر.وأما ما يستدل عليه بقرينة ليست من توابعه فإن ذلك أدق من الأول، وألطف مأخذاً.فمما ورد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جُعِلَ قاضياً فقد عرض نفسه لخطر عظيم كالذبح بغير سكين وأما المقدر فإنه يدل على أنه من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين» فهذا يستخرج منه المعنيان المشار إليهما، فالتام منهما يدل على أنه من جعل قاضياً فقد أمر بمفارقة هواه، وهذا لا يدل عليه اللفظ بنفسه، بل يستدل عليه بقرينة أخرى، ولكنها ليست من توابعه، ووجه ذلك أن لفظ الحديث عام يشمل القضاة على الإطلاق، ولا يخلو إما أن يراد به عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا، ولا يجوز أن يكون المراد به عذاب الآخرة، لأنه ليس كل قاض معذباً في الآخرة بل المعذب منهم قضاة السوء فوضح بهذا أن المراد بالحديث عذاب الدنيا، وعلى هذا فلا يخلو إما أن يكون العذاب صورةً أو معنى، ولا يجوز أن يكون صورة، لأنا نرى الإنسان إذا جعل قاضياً لا يذبح ولا يناله شيءٌ من ذلك، فبقي أن يكون المراد به عذاباً معنوياً، وهو الذبح المجازي غير الحقيقي وفحوى ذلك أن نفس الإنسان مركبة على حب هواها فإذا جعل قاضياً فقد أمر بترك ما جبل على حبه: من الامتناع عن الرشوة، والحكم لصديقه على عدوه، ورفع الحجاب بينه وبين الناس، والجلوس للحكم في أوقات راحته، وغير ذلك من الأشياء المكروهة التي تشق على النفس وتجدد لها ألماً مبرحاً والذبح هو قطع الحلقوم، والألم الحاصل به، وهو كالذبح الحقيقي، بل أشد منه، لأن ألم الذبح الحقيقي يكون لحظة واحدة ثم ينقضي ويزول، وألم قطع النفس عن هواها يدوم ولا ينقضي، وهو أشد العذاب. قال الله تعالى في عذاب أهل النار: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} وقال في نعيم أهل الجنة: {وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين}.وكثيرا ما رأينا وسمعنا من حمله حب الشيء على إتلاف نفسه في طلبه، وركوب الأهوال من أجله، فإذا امتنع عنه مع حبه إياه فقد ذبح نفسه: أي قطعها عنه كما يقطع الذابح حلق الذبيحة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انتقلنا عن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فسمى جهاد الكفار الجهاد الأصغر وجهاد النفس الجهاد الأكبر، فكما أن مجاهدة النفس عن هواها قتال بغير سيف فكذلك قطعها عن هواها ذبح بغير سكين، وهذا موضع غامض، والترجيح فيه مختص بالوجه الآخر، لاشتماله على المعنى المقصود وهو المراد من القضاة على الإطلاق.وأما مثال المعنيين إذا كان أحدهما مناسباً لمعنى تقدمه أو لمعنى تأخر عنه والآخر غير مناسب: فالأول هو ما كان مناسباً لمعنى تقدمه كقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} فالدعاء هاهنا يدل على معنيين: أحدهما: النهي أن يدعى الرسول باسمه، فيقال يا محمد، كما يدعو بعضهم بعضاً بأسمائهم، وإنما يقال له: يا رسول الله، أو يا نبي الله، الآخر: النهي أن يجعلوا حضورهم عنده إذا دعاهم لأمر من الأمور كحضور بعضهم عند بعض، بل يتأدبون معه، بأن لا يفارقوا مجلسه إلا بإذنه، وهذا الوجه هو المراد، لمناسبة معنى الآية التي قبله، وهو قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه} أما الثاني: وهو ما كان مناسباً لمعنى تأخر عنه فكقوله تعالى: {والتين والزيتون وطور سينين} فالتين والزيتون هما هذا الشجر المعروف، وهما اسما جبلين أيضاً، وتأويلهما بالجبلين أولى، للمناسبة بينهما وبين ما أتى بعدهما من ذكر الجبل الذي هو الطور.وعلى هذا ورد قول الشاعر في أبيات الحماسة: فإذا نظرنا إلى البيت الأول وجدناه يحتمل مدحاً وذماً، أي أنهم كانوا يغنونه بعطائهم أن يدين، أو أنه كان يخاف الدين حذر أن لا يقوموا عنه بوفائه، لكن البيت الثاني حقق أن الأول ذم وليس بمدح، فهذا المعنى لا يتحقق فهمه إلا بآخره.وأما الذي يكون الترجيح فيه بسبب شيء خارج عن مفهوم اللفظ فقوله تعالى: {وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم} فهذا مستنبط منه معنيان: أحدهما أن الله يعلم السر والجهر في السموات والأرض، وفي ذلك تقديم وتأخير: أي يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، والآخر أنه في السموات، وأنه يعلم السر والجهر في الأرض من بني آدم، لأن الوقف يكون على السموات ثم يستأنف الكلام فيقول: يعلم سركم وجهركم في الأرض، إلا أن هذا يمنع اعتقاد التجسيم، وذلك شيء خارج عن مفهوم اللفظ.
فقوله وطن النهى من الكلمات الجامعة، وهي عبارة عن الرأس، ولا يجاء بمثلها في معناها مما يسد مسدها.وكذلك ورد قول البحتري: فقوله قلبٌ يطل على أفكاره من الكلمات الجوامع، ومراده بذلك أن قلبه لا تملوه الأفكار، ولا تحيط به، وإنما هو عالٍ عليها، يصف بذلك عدم احتفاله بالقوادح، وقلة مبالاته بالخطوب التي تحدث أفكاراً تستغرق القلوب، وهذه عبارة عجيبة لا يؤمن بمثلها مما يسد مسدها.وأما ما يأتي على حكم الحقيقة فكقول ابن الرومي: فقوله لا أعرف اليوم باسمه من الكلمات الجامعة: أي أني قد شغلت باللذات عن معرفة الليالي والأيام، ولو وصف اشتغاله باللذات مهما وصف لم يأت بمثل قوله لا أعرف اليوم باسمه.وأما القسم الثاني من جوامع الكلم، فالمراد به الإيجاز الذي يدل به بالألفاظ القليلة على المعاني الكثيرة: أي أن ألفاظه صلوات الله عليه جامعة للمعاني المقصودة على إيجازها واختصارها، وجل كلامه جارٍ هذا المجرى، فلا يحتاج إلى ضرب الأمثلة به، وسيأتي في باب الإيجاز منه ما فيه كفاية ومقنع.فإن قيل: فما الفرق بين هذين القسمين اللذين ذكرتهما، فإنهما في النظر سواء؟ قلت في الجواب إن الإيجاز هو أن يؤتى بألفاظ دالة على معنى من غير أن تزيد على ذلك المعنى، ولا يشترط في تلك الألفاظ أنها لا نظير لها، فإنها تكون قد اتصفت بوصف آخر خارج عن وصف الإيجاز، وحينئذ يكون إيجازاً وزيادة. وأما هذا القسم الآخر فإنه ألفاظ أفراد في حسنها لا نظير لها، فتارة تكون موجزة، وتارة لا تكون موجزة، وليس الغرض منها الإيجاز، وإنما الغرض مكانها من الحسن الذي لا نظير لها فيه، ألا ترى إلى قول أبي تمام وطن النهي فإن ذلك عبارة عن الرأس، ولا شك أن الرأس أوجز، لأن الرأس لفظة واحدة، ووطن النهي لفظتان، إلا أن وطن النهي أحسن في التعبير عن الرأس من الرأس فبان بهذا أن أحد هذين القسمين غير الآخر.
فكثيراً ما يصدر مثل هذه الأقوال عن ألسنة الجهال.وسمعت ما يجري هذا المجرى من بعض العبيد الأحابش الذين لا يستطيعون تقويم صيغ الألفاظ، فضلاً عما وراء ذلك، وذاك أنه رأى صبياً في يده طاقة ريحان، فقال: هذه طاقة آسٍ تحمل طاقة ريحان فلما سمعت ذلك منه أخذتني هزة التعجب، وذكرت شعر أبي نواس الذي تواصفه الناس في هذا المعنى، وهو قوله: وحضر عندي في بعض الأيام رجل نصراني موسوم بالطب، وكان لا يحسن أن يقول كلمة واحدة، وهو أقلف اللسان، يسيء العبارة فسألته عن زيارة شخص وهل يتردد إليه أم لا، فقال: ظلام الليل يهديني إلى باب من أوده، وضوء النهار يضل به عن باب من لا أوده، وهذا من ألطف المعاني وأحسنها وهو من الحكمة المطلوبة.وكنت قصدت زيارة بعض الإخوان من الأجناد وهو من الأغتام الأعجام، فسألته عن حاله، وكان توالت عليه نكبات طالت أيامها، وعظمت آلامها، فقال لي في الجواب ما معناه: إنه لم يبق عندي ارتياع لوقوع نائبة من النوائب وهذا معنى لو أتى به شاعر مفلق، أو كاتب بليغ لاستحسن منه غاية الاستحسان.وكنت في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بأرض فلسطين في الجيش الذي كان قبالة العدو الكافر من الفرنج لعنهم الله، وتقابل الفريقان على مدينة يافا، وكان إلى جانبي ثلاثة فرسان من المسلمين، فتعاقدوا على الحملة إلى نحو العدو، فلما حملوا صدق منهم اثنان وتلكأ واحد، فقيل له في ذلك، فقال: الموت طعام لا تجشه المعدة فلما سمعت هذه الكلمة استحسنتها، وإذا هي صادرة عن رجل من أهل بصرى فدم من الأفدام.ولو أخذت في ذكر ما سمعته من هذا لأطلت، وإنما دللت بيسير ما ذكرته على المراد، وهو أنه يجب على المتصدي للشعر والخطابة أن يتتبع أقوال الناس في محاوراتهم فإنه لا يعدم مما يسمعه منهم حكماً كثيرة، ولو أراد استخراج ذلك بفكره لأعجزه.ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي أولها: انتهى منها إلى قوله: ثم قال: ووقف عند صدر هذا البيت يردده، وإذا سائل يسأل على الباب، وهو يقول من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا فقال أبو تمام: فأتم صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل.وسمعت امرأة قد توفي لها ولد، وهو بكرها الذي هو أول أولادها فقالت: كيف لا أحزن لذهابه وهو أول درهمٍ وقع في الكيس، فأخذت أنا هذا المعنى وأودعته كتاباً من كتبي في التعازي، وهو كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وقد توفي بكره من الأولاد فقلت: وهو أول درهمٍ ادخرته في كيس الادخار، وأعددته لحوادث الليل والنهار.وبلغني عن الشيخ أبي محمد بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادي، وكان إماماً في علم العربية وغيره، فقيل: إنه كان كثيراً ما يقف على حلق القصاص والمشعبذين، فإذا أتاه طلبة العلم لا يجدونه في أكثر أوقاته إلا هناك، فليم على ذلك، وقيل له: أنت إمام الناس في العلم، وما الذي يبعثك على الوقوف بهذه المواقف الرذيلة، فقال: لو علمتم ما أعلم لما لمتم، ولطالما استفدت من هؤلاء الجهال فوائد كثيرة فإنه يجري في ضمن هذيانهم معانٍ غريبة لطيفة، ولو أردت أنا وغيري أن نأتي بمثلها لما استطعنا ذلك ولا شك أن هذا الرجل رأى ما رأيته ونظر إلى ما نظرت إليه. |